فصل: الشاهد السابع والتسعون بعد الستمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثامن والثمانون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

ومن نحن نؤمنه يبت وهو آمن

لما تقدم قبله‏.‏

فنحن‏:‏ فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور، فلما حذف الفعل برز الضمير، وانفصل، والتقدير‏:‏ فمن نؤمنه نؤمنه‏.‏

قال سيبويه في باب الحروف التي لا تقدم فيها الأسماء الفعل‏:‏ اعلم أن حروف الجزاء، يقبح أن تتقدم الأسماء فيها قبل الأفعال، وذلك أنهم شبهوها بما يجزم مما ذكرنا، إلا حروف الجزاء، قد جاز ذلك فيها في الشعر، لأن حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل، ويكون فيها الاستفهام فيرفع فيها الأسماء، وتكون بمنزلة الذي‏.‏

فلما كانت تصرف هذا التصرف وتفارق الجزم، ضارعت ما يجر من الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة، نحو‏:‏ ضارب عبد الله، فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي، واللام في الأمر، لأنهن لا يفارقن الجزم‏.‏

ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ، نحو قوله‏:‏

عاود هراة وإن معمورها خربا

فإن جزمت ففي الشعر، لأنه يشبه بلم‏.‏ وإنما جاز في الفصل، ولم يشبه، لأن لم لا يقع بعدها فعل‏.‏ وإنما جاز هذا في إن لأنها أصل الجزاء، ولا تفارقه، فجاز هذا، كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا‏:‏ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر‏.‏

وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعف في الكلام، لأنها ليست كإن، فلو جاء في إن وقد جزمت كان أقوى، إذ جاز فيه فعل‏.‏ ومما جاء في الشعر مجزوماً في غير إن، قول عدي بن زيد‏:‏

فمتى واغل ينبهم يحيو ‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقال‏:‏

أينما الريح تميلها تمل

ولو كانت فعل كان أقوى؛ إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام‏.‏ واعلم أن قولهم في الشعر‏:‏ إن زيد يأتك يكن كذا، إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره، كما كان ذلك في قولك‏:‏ إن زيداً رأيته يكن ذلك، لأنها لا يبتدأ بعدها الأسماء، ثم يبنى عليها‏.‏ فإن قلت‏:‏ إن تأتني زيد، يقل ذلك، جاز على قول من قال‏:‏ زيداً ضربته‏.‏ وهذا موضع ابتداء‏.‏

ألا ترى أنك لو جئت بالفاء، فقلت‏:‏ إن تأتني، فأنا خير لك، كان حسناً‏.‏ وإن لم تجعله على ذلك رفع وجاز في الشعر، كقوله‏:‏

الله يشكرها

ومثل الأول قول هشام المري‏:‏ الطويل

فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن *** ومن لا نجره يمس منا مفزعا

انتهى كلام سيبويه، ولنفاسته سقناه بتمامه‏.‏

وقد أورد ابن هشام هذا البيت في المغني قال‏:‏ قولنا الجملة المفسرة لا محل لها، خالف فيه الشلوبين، فزعم أنها بحسب ما تفسره، فهي في نحو‏:‏ زيداً ضربته لا محل لها، وفي نحو‏:‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر ونحو زيد الخبز يأكه، ينصب الخبز، في محل رفع‏.‏ ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله‏.‏

قال‏:‏

فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن

فظهر الجزم‏.‏ وكانت الجملة المفسرة عنده عطف بيان، وبدلاً‏.‏ ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة‏.‏

وقد بينت أن جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمى في الاصطلاح جملة مفسرة، وإن حصل فيها تفسير‏.‏

ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان، واختلف في المبدل منه‏.‏

وفي البغداديات لأبي علي أن الجزم في ذلك بأداة شرط مقدرة، فإنه قال ما ملخصه‏:‏ أن الفعل المحذوف، والفعل المذكور في نحو قوله‏:‏ الكامل

لا تجزعي إن منفساً أهلكته

مجزومان في التقدير، وأن انجزام الثاني ليس على البدلية، إذ لم يثبت حذف المبدل منه، بل على تكرير إن، أي‏:‏ إن أهلكت منفساً إن أهلكته، وساغ إضمار إن لاتساعهم فيها‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

والبيت لهشام المري كما قاله سيبويه وغيره، وهو منسوب إلى مرة بن كعب ابن لؤي القرشي، وهو شاعر جاهلي‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والثمانون بعد الستمائة

الكامل

يثني عليك وأنت أهل ثنائه *** ولديك إن هو يستزدك مزيد

على أن مجيء الشرط المفصول باسم من أداة الشرط مضارعاً شاذ، وحقه أن يكون ماضياً، سواء كان لفظاً ومعنى، نحو‏:‏ إن زيد قام قمت، ومعنى فقط نحو قوله‏:‏ الطويل

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمه *** فليس إلى حسن الثناء سبيل

وفيه نظر من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أنه عمم في أداة الشرط، وسيبويه خصه بإن، كما تقدم، وتبعه من بعده‏.‏

الثاني‏:‏ أن مجيء المضارع ضرورة لا شاذ، سواء كانت الأداة إن وغيرها، كما تقدم عن سيبويه‏.‏

وهو في هذا الثاني تابع لابن مالك في التسهيل‏.‏

وروي‏:‏

ولديك إما يستزدك مزيد

فلا شاهد فيه‏.‏ فإما هي إن الشرطية، وما الزائدة‏.‏

والبيت من أبيات ستة لعبد الله بن عنمة الضبي، أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة، وهي‏:‏

أأبي لا تبعد وليس بخالد *** حي ومن تصب المنون بعيد

أأبي إن تصبح رهين قرارة *** زلج الجوانب قعرها ملحود

فلرب مكروب كررت وراءه *** فمنعته وبنو أبيه شهود

أنفاً ومحمية وأنك ذائد *** إذ لا يكاد أخو الحافظ يذود

فلرب عان قد فككت وسائل *** أعطيته فغدا وأنت حميد

يثني عليك وأنت أهل ثنائه *** ولديك إما يستزدك مزيد

وقوله‏:‏ أأبي إلخ الهمزة للنداء، وأبي‏:‏ منادى‏.‏ ولا تبعد‏:‏ لا تهلك، وأخبر أن ذلك ليس بكائن، من أجل أنه لا يبقى على الدهر ذو حياة‏.‏ والمنون‏:‏ المنية‏.‏ وبعيد‏:‏ خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فهو بعيد‏.‏

وقوله‏:‏ تصبح رهين إلخ، أي‏:‏ إن خليت مكانك، وصرت رهين قبر رتق الجوانب لا ينعش صريعه، ولا يفك رهينه، فلرب مكروب، أي‏:‏ رب مضيق عليه، تعطفت عليه، وأنقذته‏.‏

وقوله‏:‏ أنفاً ومحمية‏:‏ مفعول لأجله، أي‏:‏ فعلت ذلك حمية وأنفة، ولأن من سجيتك الذياد، أي‏:‏ المنع، حين لا ذائد، لشدة الأمر‏.‏

والعاني‏:‏ الأسير، من عنا يعنو إذا خضع، أي‏:‏ ورب أسير أطلقته من إساره، ورب سائل أعطيته فأغنيته، فانصرف عنك، وأنت محمود مشكور، وهو يثني عليك، ويشكر نعمتك‏.‏ ولو عاد إليك لوجد معاداً، إذ لا تضجر، ولا تسأم من الإفضال والجود‏.‏

وعبد الله بن عنمة شاعر إسلامي مخضرم، تقدمت ترجمته في الشاهد الخمسين بعد الستمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

أينما الريح تميلها تمل

لما تقدم قبله‏.‏ وتقدم الكلام عليه قريباً وبعيداً‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

إن منفس أهلكته

هو قطعة من بيت، وهو‏:‏

لا تجزعي إن منفس أهلكته *** وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والأربعين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التسعون بعد الستمائة

الطويل

وللخيل أيام فمن يصطبر له *** ويعرف لها أيامها الخير تعقب

على أن الخير مفعول مقدم لتعقب، وتعقب مجزوم جواب الشرط، وإنما كسرت الباء لأن القصيدة مجرورة‏.‏

وإنما جاز الكسر في المجزوم دون المرفوع والمنصوب لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، فلما وجب تحريكه للقافية، حركوه بحركة النظير‏.‏

والثاني‏:‏ أن الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل، ولا يدخل الجر، فلو حركوه بالضم والفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء، بخلاف الكسر فإنه ليس فيه لبس‏.‏

قال يعقوب بن السكيت في شرح ديوان طفيل‏:‏ أراد تعقبه الخيل الخير؛ فقدم، وأخر‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وأجاب الدماميني عن الكوفيين، بأن الخير صفة أيامها، أي‏:‏ أيامها الطيبة، فلا فصل لأنه ليس بمفعول للجزاء، فجزم تعقب لعدم الفصل‏.‏

وفيه نظر من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الأيام هنا عبارة عن الشدائد المتعلقة برياضة الخيل، ومقاساة أهوالها، فلا طيب بالشدائد على النفس، والقرينة استعمال الصبر‏.‏

ثانيهما‏:‏ أن تعقب فعل متعد، فلا بد له من مفعول، وليس هنا منزلاً منزلة الفعل اللازم‏.‏ فإذا كان الخير صفة أيامها، لا يعلم ما الذي تعقبه الخيل‏.‏

ويشهد لما قلنا ما أنشده ابن قتيبة في أبيات المعاني، وهو قول الشاعر‏:‏ الطويل

وكل مفداة العلالة صلدم

قال‏:‏ أي‏:‏ أعقبهم خيلهم هذه خيراً، مما قاموا عليها وصنعوها‏.‏ والأهوج‏:‏ الذي يركب رأسه‏.‏ والمهرج، بكسر الميم‏:‏ الكثير الجري‏.‏

وقوله‏:‏ مفداة العلالة، يقال لها إذا طلب علالتها، وهي بقية جريها‏:‏ ويهاً فداً لك، ومثله قول طفيل‏:‏

وللخيل أيام البيت

والعرب لكثرة انتفاعها بالخيل تسميها الخير، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ‏.‏ ذكروا أنه لها بالخيل، وبالنظر إليها، حتى فاتته صلاة العصر‏.‏

وقال أبو ميمون العجلي‏:‏ الزجر

والخيل والخيرات كالقرينين

وقوله‏:‏ وللخيل أيام مبتدأ وخير، وقوله‏:‏ ويعرف لا معطوف على يصطبر، ولهذا جزم‏.‏ وتعقب، أي‏:‏ تحدث الخير في العاقبة‏.‏ والماضي أعقب بالهمزة، وهو متعد لمفعولين كما فهم من ابن السكيت‏.‏

والبيت من قصيدة طويلة عدتها ستة وسبعون بيتاً، قالها في غارة أغارها على طيئ أكثرها في وصف الخيل‏.‏

وبعده‏:‏ الطويل

وقد كان حيانا عدوين في الذي *** خلا فعلى ما كان في الدهر فارتبي

إلى اليوم لم تحدث إليكم وسيلة *** ولم تجدوها عندنا في التنسب

جزيناهم أمس العظيمة إنن *** متى ما تكن منا الوسيقة نطلب

قال ابن السكيت‏:‏ قوله‏:‏ فارتبي، يريد‏:‏ فاثبتي أيتها العداوة‏.‏

وقوله‏:‏ إلى اليوم إلخ، يقول‏:‏ لم تكن بيننا مودة، ولا نسب، فيستعطف به‏.‏ والوسيقة‏:‏ الطريدة‏.‏ والعظيمة‏:‏ الفظيعة‏.‏

وطفيل الغنوي شاعر جاهلي، وهو طفيل بن عوف بن خلف بن ضبيس ابن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان، بكسر الجيم وتشديد اللام، ابن غنم بفتح فسكون، ابن غني بن أعصر‏.‏ كذا في الجمهرة‏.‏

قال الصولي في كتاب الكتاب في خلال وصف الحبر‏:‏ وسموا طفيلاً الغنوي محبراً، لتحسينه شعره‏.‏

وقيل سمي بذلك لقوله يصف برداً‏:‏ الطويل

سماوته أسمال برد محبر *** وسائره من أتحمى معصب

وسماوة البيت‏:‏ سقفه‏.‏ والأتحمي‏:‏ ضرب من البرود‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ كان طفيل الغنوي من أوصف العرب للخيل، فقال عبد الملك‏:‏ من أراد ركوب الخيل فليرو شعر طفيل‏.‏ وقال معاوية‏:‏ دعوا لي طفيلاً، وسائر الشعراء لكم‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كان طفيل أحد نعات الخيل، وكان أكبر من النابغتين، وليس في قيس فحل أقدم منه، وكان يسمى طفيل الخيل لكثرة وصفه إياها، والمحبر لحسن وصفه لها‏.‏

وقد أورد الآمدي في المؤتلف والمختلف أربعة شعراء كل منهم اسمه طفيل، أحدهم هذا‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الرجز

يا أقرع بن حابس يا أقرع *** إنك إن يصرع أخوك تصرع

على أن الكوفيين استدلوا به على أن رتبة الجزاء التقديم، فرفع تصرع مراعاة لأصله، ولو كان رتبته التأخير لجزم‏.‏

وأجاب الشارح عنه بأنه ضرورة، كما بينه‏.‏

وهذا مأخوذ من كلام سيبويه، وهذا نصه‏:‏ وقد تقول‏:‏ إن أتيتني آتيك، أي‏:‏ آتيك إن أتيتني‏.‏

قال زهير‏:‏ البسيط

وإن أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لا غائب ما لي ولا حرم

ولا يحسن إن تأتيني آتيك، من قبل أن إن هي العاملة‏.‏ وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجلي‏:‏

يا أقرع بن حابس يا أقرع *** إنك إن يصرع أخوك تصرع

أي‏:‏ إنك تصرع إن يصرع أخوك‏.‏

ومثل ذلك قوله‏:‏ البسيط

هذا سراقة للقرآن يدرسه *** والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

أي‏:‏ والمرء ذئب إن يلق الرشا‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ هو قديم أنشدنيه أبو عمرو‏.‏

وقال ذو الرمة‏:‏ الطويل

وإني متى أشرف على الجانب الذي *** به أنت من بين الجوانب ناظر

أي‏:‏ إني ناظر متى أشرف‏.‏ فجاز هذا في الشعر، وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً؛ لأن المعنى واحد، كما شبه الله يشكرها، جعله بمنزلة يشكرها الله‏.‏

وكما قالوا في اضطرار‏:‏ إن تأتني أنا صاحبك، تريد معنى الفاء، فتشبهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه، وأنت تعنيه‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن أتيتني آتك، وإن لم تأتني أجزك، لأن هذا في موضع الفعل المجزوم، وكأنه قال‏:‏ إن تفعل أفعل‏.‏ وتقول‏:‏ إن تأتني فأكرمك، أي‏:‏ فأنا أكرمك، فلا بد من رفع فأكرمك، إذا سكت عليه لأنه جواب‏.‏ وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

فتخريج الشارح المحقق في البيت خلاف ما خرجه سيبويه، فإن الشارح جعل تصرع جواب الشرط مع مبتدأ محذوف مع الفاء الرابطة، والتقدير‏:‏ فأنت تصرع، والجملة الشرطية خير إن‏.‏

وسيبويه جعل تصرع خير إن، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله‏.‏

والرجز لعمرو بن الخثارم، وتقدم شرحه في الشاهد الحادي والثمانين بعد الخمسمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي والتسعون بعد الستمائة

وهو من شواهد س‏:‏ البسيط‏.‏

من يفعل الحسنات الله يشكرها

على أن الفاء الرابطة محذوفة من جواب الشرط ضرورة، أي‏:‏ فالله يشكرها‏.‏

قال النحاس‏:‏ أبو العباس المبرد يجيز حذف الفاء في الشعر‏.‏

ونقل العيني عنه خلافه، قال‏:‏ وعن المبرد أنه منع ذلك حتى في الشعر‏.‏

ثم قال النحاس‏:‏ وقال أبو الحسن‏:‏ هو عندي جائز في الكلام إذا علم، ومنه قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم وقرئ‏:‏ بما كسبت فاستدل بهذا على أن الفاء محذوفة‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ترك خيراً الوصية للوالدين ‏.‏

وكذلك جوزه ابن مالك، قال‏:‏ ومنه حديث اللقطة‏:‏ فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها‏.‏

ثم قال النحاس‏:‏ قال أبو الحسن‏:‏ حدثني محمد بن يزيد، قال‏:‏ حدثني المازني أن الأصمعي، قال‏:‏ هذا البيت غيره النحويون، والرواية‏:‏

من يفعل الخير فالرحمن يشكره

اه‏؟‏‏.‏

وأبو الحسن قال هذا فيما كتبه على نوادر أبي زيد، قال‏:‏ أخبرنا أبو العباس عن المازني عن الأصمعي أنه أنشدهم‏:‏ فالرحمن يشكره‏.‏ قال‏:‏ فسألته عن الرواية الأولى، فذكر أن النحويين صنعوها‏.‏ ولهذا نظائر ليس هذا موضع شرحها‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وهذا مردود؛ لأنه طعن في الرواة العدول‏.‏

وأغرب منه ما نقله ابن المستوفي، قال‏:‏ وجدت في بعض نسخ الكتاب في أصله‏:‏ قال أبو عثمان المازني‏:‏ خبر الأصمعي عن يونس، قال‏:‏ نحن عملنا هذا البيت‏.‏

وكذلك نقله الكرماني في الموشح‏.‏

والبيت نسبه سيبويه وخدمته لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت رضي الله عنه، ورواه جماعة لكعب بن مالك الأنصاري‏.‏

وقبله بيتان وهما‏:‏

إن يسلم المرء من قتل ومن هرم *** للذة العيش أفناه الجديدان

فإنما هذه الدنيا وزينته *** كالزاد لا بد يوماً أنه فاني

وترجمه كعب بن مالك تقدمت في الشاهد السادس والستين‏.‏

وعبد الرحمن بن حسان يعرف نسبه من ترجمة والده رضي الله عنه، وقد تقدمت في الشاهد الحادي والثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والتسعون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل‏.‏

وأني متى أشرف على الجانب الذي *** به أنت من بين الجوانب ناظر

على أن قوله‏:‏ ناظر جواب الشرط، بتقدير مبتدأ محذوف مع الفاء الرابطة، أي‏:‏ فأنا ناظر، وتكون الجملة الشرطية خير أن‏.‏

وهذا خلاف ما ذهب إليه سيبويه، فإن ناظراً عنده خير إن، والجملة دليل جواب الشرط المحذوف‏.‏

قال ابن السراج في الأصول‏:‏ هذا عند سيبويه على تقديم الجزاء‏:‏ وإني ناظر متى أشرف‏.‏ وأجاز أيضاً أن يكون على إضمار الفاء‏.‏ والذي عند أبي العباس وعندي فيه وفي أمثاله، أنه على إضمار الفاء لا غير، لأن الجواب في موضعه، فلا يجوز أن ينوى به غير موضعه، إذا وجد له تأويل‏.‏

ومثله‏:‏

إنك إن يصرع أخوك تصرع

فهذا على ما ذكرت لك‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إنه *** مطبعة من يأتها لا يضيرها

أراد‏:‏ لا يضيرها من يأتها، وإنك تصرع إن يصرع أخوك، وهو عندنا على إضمار الفاء‏.‏

فأما قوله‏:‏

من يفعل الحسنات الله يشكرها

فعلى إضمار الفاء في كل قول‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وسيأتي نقل كلام المبرد في الشاهد السادس والثمانين بأبسط من هذا‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة، وهذا مطلعها‏:‏

لمية أطلال بحزوى دوائر *** عفتها السوافي بعدنا والمواطر

كأن فؤادي هاض عرفان ربعه *** به وعي ساق أسلمتها الجبائر

عشية مسعود يقول وقد جرى *** على لحيتي من عبرة العين قاطر

أفي الدار تبكي أن تفرق أهله *** وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر

فلا ضير أن تستعبر العين إنني *** على ذاك إلا جولة الدمع صابر

فيا مي هل يجزى بكائي بمثله *** مراراً وأنفاسي إليك الزوافر

وأني متى أشرف على الجانب ***‏.‏‏.‏ البيت

قوله‏:‏ لمية أطلال إلخ، حزوى‏:‏ اسم مكان‏.‏ والدوائر‏:‏ التي قد انمحت‏.‏ وعفتها‏:‏ محتها‏.‏ والسوافي‏:‏ الرياح التي تسفي التراب‏.‏

وقوله‏:‏ كأن فؤادي إلخ، الهيض‏:‏ الكسر بعد الجبر، وضمير به للفؤاد‏.‏ والوعي‏:‏ الجبر‏.‏ وأسلمتها‏:‏ خذلتها‏.‏ والإسلام‏:‏ التخلية والخذلان‏.‏

والجبارة، بالكسر‏:‏ ما شددت به الكسر من الأعواد‏.‏ وعرفان فاعل هاض، ووعي‏:‏ مفعوله‏.‏

وقوله‏:‏ عشية مسعود، هو أخو ذي الرمة‏.‏

وقوله‏:‏ في الدار إلخ ، هو مقول مسعود، وأن تفرق مجرور باللام المقدرة، وأنت امرؤ‏.‏‏.‏ إلخ، جملة حالية‏.‏ وحلمتك‏:‏ وصفتك بالحلم‏.‏

وقوله‏:‏ فلا ضير‏.‏‏.‏ إلخ، الضير‏:‏ الضرر‏.‏ وصابر‏:‏ خبر إنني، يريد‏:‏ إنني صابر على ذلك الوجد إلا جولة الدمع، أي‏:‏ يجول في العين‏.‏

وقوله‏:‏ فيا مي إلخ ، هو مرخم مية‏.‏ ويجزى، ببناء المفعول، يريد‏:‏ هل تبكين مثل ما أبكي مراراً‏.‏ والزفير‏:‏ إدخال النفس إلى الجوف‏.‏ والشهيق‏:‏ إخراجه‏.‏

وقوله‏:‏ وأني متى أشرف إلخ ، هو بفتح الهمزة معطوف على المستثنى، وهو جولة الدمع‏.‏

قال شارح ديوانه‏:‏ يريد‏:‏ إنني على ذاك صابر إلا جولة الدمع، وأني متى أشرف‏.‏ والأقرب أن يكون معطوفاً على بكائي، أي‏:‏ هل يجزى نظري إليك في كل جهة كنت فيها، أي‏:‏ هل تنظرين إلي كذلك‏.‏ والمعنى‏:‏ هل تجزينني على هذه المحبة‏.‏ والتاء من أنت مكسورة‏.‏

وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الطويل

فأنت طلاق والطلاق ألية

على أن جملة‏:‏ والطلاق ألية اعتراضية، وقعت بين المصدر وهو طلاق، وبين عدده وهو ثلاثاً في المصراع الثاني، وهو‏:‏

ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم

وتقدم الكلام عليه بما لا مزيد عليه في الشاهد الخامس والأربعين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والتسعون بعد الستمائة

الطويل

يرى كل من فيها وحاشاك فانيا

على أن جملة‏:‏ وحاشاك اعتراضية وقعت بيت مفعولي يرى، أولهما‏:‏ كل، وثانيهما‏:‏ فانيا‏.‏

وهذا عجز، وصدره‏:‏

وتحتقر الدنيا احتقار مجرب

والبيت فيه من أنواع البديع التكميل، وهو أن يأتي الشاعر والمتكلم بمعنى من معاني المدح، وغيره من فنون الشعر، وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، فيكمل بمعنى آخر، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة، ورأى مدحه بالاقتصار عليها دون الكرم مثلاً، غير كامل، فيكمله بذكر الكرم، وبالبأس دون الحلم وما أشبهه‏.‏

قال ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير‏:‏ ومما وهم فيه المؤلفون في هذا الموضع أنهم خلطوا التكميل بالتتميم، إذ ساقوا في باب التتميم شواهد التكميل، لأنهم ذكروا قول عوف‏:‏ السريع

إن الثمانين وبلغته *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

من شواهد التتميم‏.‏

ومعنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها‏.‏ وإذا لم يكن المعنى ناقصاً، فيكف يسمى هذا تتميماً؛ وإنما هو تكميل‏.‏ وما غلطهم إلا من كونهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ، وتتميم المعاني‏.‏

وكذلك أتوا بقول المتنبي‏:‏

وتحتقر الدنيا احتقار مجرب البيت

في باب التتميم، وهو مثل الأول، وإن زاد على الأول أدنى زيادة لما في لفظة حاشاك بعد ذكر الفناء من حسن الأدب مع الممدوح‏.‏ وربما سومح بأن يجعل هذا البيت في شواهد التتميم بهذه اللفظة‏.‏ وأما الأول فمحض التكميل، ولا مدخل له في التتميم‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وقد ذكر التتميم في أول كتابه، وقال‏:‏ سماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه‏.‏ وشرح حده‏:‏ أنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه، ومبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تام‏.‏ ومجيئه على وجهين‏:‏ للمبالغة، والاحتياط‏.‏ ويجيء في المقاطع، كما يجيء في الحشو‏.‏ هذا كلامه‏.‏

ولا يخفى أن هذا الحد منطبق على البيت‏.‏

وأما أنا فالبيت عندي من الاحتراس، وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل، فيفطن له، فيأتي بما يلخصه من ذلك‏.‏

قال ابن أبي الإصبع‏:‏ والفرق بين الثلاثة أن المعنى قبل التكميل صحيح تام، ثم يأتي التكميل زيادة يكمل بها حسنة، إما بفن زائد وبمعنى‏.‏

والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى‏.‏ والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى، وإن كان تاماً كاملاً‏.‏

والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها كافوراً الإخشيدي‏.‏

وقبل هذا البيت‏:‏

وقد تهب الجيش الذي جاء غازي *** لسائلك الفرد الذي جاء عافيا

يقول‏:‏ إذا غزاك جيش، أخذته، فوهبته لسائل واحد، أتاك يسألك‏.‏

وقوله‏:‏ وتحتقر الدني إلخ ، هو بالخطاب‏.‏ وجملة‏:‏ يرى إلخ ، صفة لمجرب‏.‏

يقول‏:‏ أنت تحتقر الدنيا احتقار من جربها فعرفها، وعلم أن جميع ما فيها يفنى، ولا يبقى، أي‏:‏ فلذلك تهبها، ولا تدخرها‏.‏

وقوله‏:‏ وحاشاك استثناء مما يفنى‏.‏ وذكر هذا الاستثناء، تحسيناً للكلام واستعمالاً للأدب في مخاطبة الملوك، وهو حسن الموقع‏.‏

وترجمه المتنبي تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والتسعون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل‏.‏

فقلت تحمل فوق طوقك إنه *** مطبعة من يأتها لا يضيرها

على أن التقدير عند سيبويه‏:‏ لا يضيرها من يأتها، فهو مؤخر من تقديم‏.‏

وهذا نص سيبويه‏:‏ وقد يجوز في لشعر‏:‏ آتي من يأتني‏.‏

وقال الهذلي‏:‏

فقلت تحمل فوق طوقك ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

هكذا أنشدناه يونس، كأنه قال‏:‏ لا يضيرها من، كما كان وأني متى أشرف ناظر على القلب‏.‏ ولو أريد به حذف الفاء، جاز فجعلت كإن‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

قال الأعلم‏:‏ وهذا عند المبرد على إرادة الفاء، لأن يضير، إذا تقدمت على من ارتفعت من به‏.‏ ويلزم منه أن يبطل عملها من الجزم، لأن حرف الشرط لا يعمل فيه ما قبله‏.‏

والحجة لسيبويه، أنه يقدر الضمير في يضير على ما هو عليه في التأخير‏.‏ ومن مبتدأه على أصلها، فلا يلزم أن يرتفع من به، وتبطل من عمل الجزم‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وسننقل كلام المبرد في الشاهد الثالث والثمانين‏.‏

وقد تكلم أبو علي في كتاب الشعر على فاعل يضير على التقديرين، فقال‏:‏ من قدر فيه التقديم كان فاعل لا يضيرها ضير، فأضمر الضير له لدلالة يضير عليها‏.‏ والضير قد استعمل استعمال الأسماء في نحو لا ضير، كأنه قد صار اسماً لما يكره ولا يراد‏.‏ ومن قدر الفاء محذوفة أمكن أن يكون الفاعل عندنا أحد شيئين‏.‏

أحدهما‏:‏ الضير كقول من قدر التقديم‏.‏ ويجوز أن يكون فاعل يضير ضميراً من الذي تقدم ذكره‏.‏

أراد بما تقدم التحمل فوق الطاقة‏.‏

والبيت من قصدية عدتها سبعة عشر بيتاً لأبي ذؤيب الهذلي، قالها في ابن أخته خالد بن زهير، وكان خاله أبو ذؤيب في صغره رسولاً من وهب بن جابر إلى امرأة من هذيل، كان يتعشقها وهب، وكان أبو ذؤيب جميلاً، فرغبت فيه، واطرحت وهباً، ففشا أمرهما في هذيل، فكان يرسل إليها ابن أخته خالد بن زهير، وعاهده على أن لا يخونه فيها، فلم تلبث أن عشقت خالداً، وتركت أبا ذؤيب‏.‏

فجرى بين أبي ذؤيب وبين خالد أشعار كثيرة منها هذه القصيدة، وأجابه خالد بقصيدة على رويها، منها‏:‏ الطويل

فلا تجزعن من سنة أنت سرته *** فأول راض سنة من يسيرها

وقد شرحنا حالهما، وما لهما في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة، وفي الشاهد الستين بعد الستمائة‏.‏

وهذه الأبيات من أول قصيدة أبي ذؤيب‏:‏

ما حمل البختي عام غياره *** عليه الوسوق برها وشعيرها

أتى قرية كانت كثيراً طعامه *** كرفغ التراب كل شيء يميرها

فقيل تحمل فوق طوقك إنه *** مطبعة من يأتها لا يضيرها

بأكثر مما كنت حملت خالد *** وبعض أمانات الرجال غرورها

قوله‏:‏ ما حمل البختي عام غياره، ما‏:‏ نافية‏.‏ والبختي‏:‏ نائب فاعل حمل، وهو واحد البخت، وهو نوع من الإبل‏.‏

والغيار، بكسر المعجمة، مصدر غارهم يغيرهم، إذا مارهم، أي‏:‏ أتاهم بالميرة بالكسر، وهي الطعام‏.‏

والوسوق‏:‏ جمع وسق، وهو حمل بعير، وجملة‏:‏ عليها الوسوق تفسير لقوله‏:‏ حمل البختي‏.‏

وبرها وشعيرها بدل من الوسوق، بدل مفصل من مجمل‏.‏ وإضافة البر والشعير إلى ضمير الوسوق لأدنى ملابسة، لأنهما يصيران وسوقاً‏.‏

واختار البختي على البعير، لأنه أشد منه، وأقوى على زيادة التحمل‏.‏ ولهذا قال‏:‏ عليها الوسوق‏.‏ يعني أن هذا البختي حمل أضعاف ما يحمله غيره من الإبل‏.‏

وقوله‏:‏ أتى قرية إلخ ، فاعل أتى ضمير البختي‏.‏ والجملة حال من البختي‏.‏

وقوله‏:‏ كرفغ التراب، أي‏:‏ ككثرة التراب، وأصل الرفغ اللين والسهولة، وهو بالفاء والغين المعجمة‏.‏

وقوله‏:‏ يميرها هو على القلب، أي‏:‏ كل شيء تميره هذا القرية، فقلب، فجعل الفاعل وهو ضمير القرية مفعولاً، وأسند الفعل إلى ضمير كل شيء‏.‏ والنكتة فيه أن كل شيء يعطي هذه القرية الميرة، حتى اجتمع فيها الطعام ككثرة التراب‏.‏

وقال القاري في شرحه‏:‏ قوله‏:‏ يميرها، يريد يمتار من القرية‏.‏ قال الباهلي‏:‏ كل شيء يمير لها‏.‏

أقول‏:‏ الوجه الأول‏:‏ معنى الكلام قبل القلب، والثاني‏:‏ معناه بعد القلب، كما قلنا فيها‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت تحمل إلخ ، رواية السكري‏:‏ فقيل تحمل وهي الجيدة، أي‏:‏ وقيل للبختي تحمل فوق طاقتك، وقوله‏:‏ إنها، أي‏:‏ إن هذه القرية مطبعة، أي‏:‏ مختومة بالطابع‏.‏

يعني أن هذه القرية مملوءة بالطعام، لأن الختم إنما يكون غالباً بعد الملء‏.‏ وفيه مبالغة لا تخفى‏.‏ وجملة‏:‏ إنها مطبعة استئناف بياني، كأنه سأل البختي هل يدعونني أن أتحمل فوق طاقتي من هذه القرية‏.‏

فهو سؤال عن السبب الخاص للحكم، لا عن سبب الحكم مطلقاً، فلهذا أكد بإن‏.‏ والجملة الشرطية خير ثان لإن‏.‏ وضاره ضيراً، من باب باع‏:‏ أضر به‏.‏

وقوله‏:‏ بأكثر مما كنت إلخ ، يقول‏:‏ ما حمل هذا البختي من الطعام، بأكثر مما كنت حمت خالداً من الأمانة‏.‏ والغرور، بالضم الغفلة، والضمير للرجال‏.‏

وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ البسيط‏.‏

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

على أن التقدير عند سيبويه‏:‏ والمرء ذئب، فأخر خبر المبتدأ بعد الشرط، وتكون الجملة دليل الجواب المحذوف‏.‏

وعند المبرد ذيب هو الجزاء، بتقدير المبتدأ مع الفاء، أين‏:‏ فهو ذيب، وتكون الجملة الشرطية خبر المبتدأ‏.‏

وهذا عجز، وصدره‏:‏

هذا سراقة للقرآن يدرسه

وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني والثمانين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والتسعون بعد الستمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

على حين من تلبث عليه ذنوبه *** يجد فقدها إذ في المقام تدابر

على أن جزم أدوات الشرط المضاف إلى جملتها ظرف، خاص بالشعر كما في البيت، فإنه جازى بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة، وحكمها أن لا تضاف إلا إلى جملة خبرية، لأن المبهمات إنا تفسر وتوصل بالأخبار، لا بحروف المعاني، وما ضمنت معناها‏.‏

وجاز هذا في الشعر تشبيهاً لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر، والفعل والفاعل‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف، فتقول‏:‏ أتذكر إذ من يأتنا نأته، فإنا أجازوه لأن إذ لا تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجيء بها ولا تغير الكلام، كأنا قلنا‏:‏ من يأتنا نأته، كما أنا إذا قلنا‏:‏ إذ عبد الله منطلق، فكأنا قلنا‏:‏ عبد الله منطلق، لأن إذ لم تحدث شيئاً قبل أن تذكرها‏.‏

قال لبيد‏:‏

على حين من تلبث عليه ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

ولو اضطر شاعر، فقال‏:‏ أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، جاز له كما جاز في من‏.‏ وتقول‏:‏ أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت بين إذ، ومن‏.‏

وتقول‏:‏ مررت به، فإذا من يأتيه يعطيه، وإن شئت جزمت؛ لأن الإضمار يحسن هنا‏.‏

ألا ترى أنك تقول‏:‏ مررت به فإذا أجمل الناس، ومررنا به، فإذا أيما رجل‏.‏ فإذا أردت الإضمار، فكأنك قلت‏:‏ فإذا هو من يأته يعطيه، فإن لم تضمر فهي بمنزلة إذ، لا يجوز فيها الجزم‏.‏

والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي، وكان له في الجاهلية جار من بني القين، قد لجأ إليه، فضربه عمه عامر بالسيف، فغضب لذلك لبيد، وقال هذه القصيدة، يعدد على عمه بلاءه وينكر فعله بجاره‏.‏

وقد تقدم شرح أبيات منها في الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة‏.‏

وقبل هذا البيت‏:‏

ودافعت عنك الصيد من آل دارم *** ومنهم قبيل في السرادق فاخر

وذدت معداً والعباد وطيئ *** وكلباً كما ذيد الخماس البواكر

على حين من تلبث ***‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

الصيد‏:‏ الرؤساء المتكبرون‏.‏ يقال للسيد المتعاظم أصيد؛ لميله رأسه من الكبر والعظمة، تشبيهاً بالجمل الأصيد، وهو الذي به داء يأخذ البعير فيرم أنفه، فيشمخ، ويميل رأسه لذلك الوجع‏.‏

والقبيل‏:‏ الجماعة من قوم شتى‏.‏ والسرادق‏:‏ ما يدار حول الخيمة من شقق بلا سقف، وقيل‏:‏ هو الفسطاط، وقيل‏:‏ هو كل بيت من قطن‏.‏

وفاخر يريد يفخرون عليك‏.‏

وقوله‏:‏ وذدت معد إلخ ، الذود الطرد‏.‏ ومعد‏:‏ أبو قبيلة، أراد من ينسب إليه من أولاده‏.‏

والعباد‏:‏ بالكسر‏:‏ قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة، والنسبة إليهم عبادي‏.‏

وطيئ بهمزة الآخر على وزن فيعل، هو القبيلة المشهورة بلا همز‏.‏ وكلب أيضاً‏:‏ قبيلة‏.‏ والخماس، بالكسر‏:‏ الإبل التي لا تشرب أربعة أيام‏.‏ والبواكر‏:‏ التي تبكر غداة الخمس‏.‏

وقوله‏:‏ على حين من تلبث، على متعلقة بقوله‏:‏ ذدت، وحين يجوز جرها بالكسرة، ويجوز بناؤها على الفتحة، لأن الظروف المضافة إلى الجمل، يجوز إعرابها وبناؤها على الفتحة‏.‏ واللبث‏:‏ البطء‏.‏

والذنوب، بفتح الذال المعجمة، قال صاحب المصباح‏:‏ هي الدلو العظيمة‏.‏

قالوا‏:‏ ولا تسمى ذنوباً حتى تكون مملوءة ماء‏.‏ وتذكر وتؤنث‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مذكر لا غير‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

ويرد عليه حصره هذا البيت، فإن الضمير في فقدها مؤنث، وهو عائد إلى الذنوب‏.‏ والتدابر‏:‏ التقاطع‏.‏ وأصله أن يولي كل واحد من المتقاطعين صاحبه دبره‏.‏ يقول لعمه عند قيامه في مقام النعمان بن المنذر ملك الحيرة مع خصومه‏:‏ أنا دافعت عنك بلساني في مجمع‏.‏

يقول‏:‏ قمت بفخرك وأيامك على حين من لا يقوم بحجته‏.‏ وهذا على المثل‏.‏ يعني أنه نصره في وقت إن تبطئ فيه الحجة عن المحتج يهلك، ولا يمكنه أن يتلافى ما فرط منه‏.‏

وقوله‏:‏ يجد فقدها معناه يؤلمه فقدها، كما يقال‏:‏ وجد فلان فقد فلان، إذا انقطع عنه نفعه فأثر ذلك في حاله‏.‏

وروى‏:‏ تداثر بالمثلثة بدل تدابر بالموحدة، وهو التزاحم والتكاثر‏.‏

جعل الجمع الذين عند الملك بمنزلة المزدحمين على الماء ليسقوا إبلهم‏.‏ وأصل الدثر المال الكثير‏.‏ وأراد بالمقام المجلس الذي جمعهم للخصام‏.‏

وروي في ديوانه‏:‏

يجد فقدها وفي الذناب تداثر

بالمثلثة‏.‏ والذناب، بالكسر‏:‏ جمع ذنوب المذكورة‏.‏ قال شارح ديوانه‏:‏ يقول‏:‏ ذدت عنك في ذلك الوقت‏.‏ تلبث‏:‏ تبطئ‏.‏ والذنوب‏:‏ الدلو‏.‏ يجد فقدها إذا لم تخرج إليه‏.‏ وإنما هذا مثل ضربه‏.‏

وفي الذناب تداثر، يقول‏:‏ وفي ذلك تكاثر‏.‏ وإنما هذا مثل، أراد الألسن التي كثرت عليه‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وروى سيبويه المصراع الثاني كذا‏:‏

يرث شربه إذ في المقام تدابر

قال الأعلم‏:‏ وصف مقاماً فاخر فيه غيره، وكثرت المخاصمة والمحاجة فيه‏.‏ وضرب الذنوب، وهي الدلو مملوءة ماء، مثلاً لما نزل به من الحجة‏.‏ والشرب، بالكسر‏:‏ الحظ من الماء‏.‏ والريث‏:‏ الإبطاء‏.‏ انتهى‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والتسعون بعد الستمائة

الطويل‏.‏

ولست بحلال التلاع مخافة *** ولكن متى يسترفد القوم أرفد

على أن وقوع الجملة الشرطية بعد لكن لكونها لا تغير معنى الجملة‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وتقول‏:‏ ما أنا ببخيل، ولكن إن تأتني، أعطك‏.‏ جاز هذا وحسن، لأنك قد تضمر هاهنا كما تضمر في إذا‏.‏

ألا ترى أنك تقول‏:‏ ما رأيتك عاقلاً ولكن أحمق‏.‏ وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت ذلك في إذا‏.‏

قال طرفة‏:‏

ولست بحلال التلاع مخافة ‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

كأنه قال‏:‏ أنا‏.‏ ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من‏.‏

والذي سمعناهم ينشدون قول العجير السلولي‏:‏ الطويل

وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي *** ولكن متى ما أملك الضر أنفع

والقوافي مرفوعة، كأنه قال‏:‏ ولكن أنفع متى ما أملك الضر، ويكون أملك على متى في موضع جزاء، وما لغو‏.‏ ولم تجد سبيلاً إلى أن تكون بمنزلة من فتوصل، ولكنها كمهما‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

فشرط جواز وقوع أداة الشرط بعد لكن تقدير الضمير بينهما، وحينئذ لا ضرورة فيه، بل هو حسن للفصل، كما قال سيبويه‏.‏

ولم يصب الأعلم في قوله‏:‏ الشاهد في هذا البيت حذف المبتدأ بعد لكن ضرورة، والمجازاة بعدها، والتقدير‏:‏ ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وإن لم يقدر الضمير، فلا يجوز وقوع الأداة بعد لكن إلا في الشعر‏.‏

والشارح المحقق أخل بهذا التفصيل، ولم يذكره، وقد أخذ به أبو علي في التذكرة القصرية وقال فيها‏:‏ قال سيبويه في قوله‏:‏

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

تقديره‏:‏ ولكن أنا‏.‏ إن قيل هذا لم يحتج إلى الضمير، لأن لكن إنما تشبه الفعل إذا كانت ثقيلة، فإذا خفت، زال عنها شبه الفعل، وإذا كان كذلك، صلحت للجملتين، وإذا صلحت لهما، لم تحتج إلى ضمير‏؟‏ قيل‏:‏ لكن لما فيها من معنى الاستدراك لم يزل عنها معنى الفعل، فاحتيج إلى الضمير فيها‏.‏

وهذا عندي إنما يجب إذا دخل حرف العطف عليه، نحو‏:‏ ولكن التي في البيت، لأن حرف العطف إذا دخل عليها، خلصت لمعناها، وخرجت من العطف‏.‏ وإذا لم يدخل عليها حرف العطف، كانت للعطف، فلم يحتج في وقوع الجزاء بعدها إلى إضمار، كما لا يحتاج في حروف العطف إلى ذلك‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وقد نقل ابن هشام في المغني عن أبي علي خلاف هذا‏.‏ قال‏:‏ وزعم سيبويه في قوله‏:‏

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

أن التقدير‏:‏ ولكن أنا‏.‏ ووجهوه بأن لكن تشبه الفعل فلا تدخل عليه‏.‏ وبيان كونها داخلة عليه أن متى منصوبة بفعل الشرط، فالفعل مقدم في الرتبة عليه‏.‏

ورده الفارسي بأن المشبه للفعل هو لكن المشددة لا المخففة، ولهذا لم تعمل المخففة لعدم اختصاصها بالأسماء‏.‏ وقيل‏:‏ إنما يحتاج إلى التقدير إذا دخل عليها الواو، لأنها حينئذ تخلص لمعناها، وتخرج عن العطف‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وهذا كما ترى مخالف لكلام أبي علي من وجوه، ولا أدري من أين نقله‏.‏

وقوله‏:‏ ولست بحلال إلخ ، الحلال‏:‏ مبالغة الحال، من الحلول وهو النزول‏.‏ والأحسن أن يكون فعال للنسبة، أي‏:‏ لست بذي حلول والتلاع‏:‏ جمع تلعة، وهو مجرى الماء من رؤوس الجبال إلى الأودية‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ والتلعة من الأضداد، تكون ما ارتفع، وما انخفض‏.‏ والمراد هنا الثاني، وهو سيل ماء عظيم‏.‏ ومخافة‏:‏ مفعول لأجله‏.‏ وأرفد، بكسر الفاء، لأنه مضارع رفده رفداً من باب ضرب، أي‏:‏ أعطاه وأعانه‏.‏ والرفد بالكسر اسم منه‏.‏ وأرفده بالألف مثله‏.‏ وترافدوا‏:‏ تعاونوا‏.‏ واسترفدته‏:‏ طلبت رفده‏.‏

قال الزوزني‏:‏ المعنى إني لست ممن يستتر في التلاع مخافة الضيف وغدر الأعداء إياي، ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي، إما في قرى الضيف، وإما في قتال الأعداء‏.‏

وهذا البيت من معلقة طرفة بن العبد‏.‏ وقد عابه المرزباني في كتاب الموشح، وقال‏:‏ المصراع الثاني غير مشاكل للأول‏.‏

وبعده‏:‏

فإن تبغني في حلقة القوم تلقني *** وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد

الحلقة، بسكون اللام‏:‏ ما استدار من الناس ومن الحديد، وتجمع على الحَلَق بفتح الحاء واللام، وهذا من الشواذ‏.‏ وقد تجمع على الحِلَق بكسر الحاء مثل بَدرة وبِدَر‏.‏ والاقتناص‏:‏ الاصطياد‏.‏

يقول‏:‏ وإن تطلبني في محفل القوم، وجدتني هناك، وإن تطلبني في بيوت الخمارين صدتني‏.‏ والبغاء هو الطلب، والفعل بغى يبغي‏.‏ يريد أنه يجمع بين الجد والهزل‏.‏ كذا في شرح الزوزني‏.‏

وقال أبو جعفر النحوي‏:‏ المعنى إن تطلبني في موضع، يجتمع القوم فيه للمشورة، وإجالة الرأي تلقني، لما عندي من الرأي، لا أتخلف عنهم، وإن تطلبت صيدي في حوانيت الخمارين، تجدني أشرب، وأسقي من حضرني‏.‏ والحانوت‏:‏ بيت الخمار، يذكر ويؤنث‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ يقول‏:‏ أبداً تجدني في مجلس القوم للمفاخرة، وفي بيوت الخمارين مع الشرب، يعني أنه من وجوه قومه، لا يبرم أمر إلا بحضرته، وأنه صاحب شراب ولهو‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والتسعون بعد الستمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي *** ولكن متى ما أملك الضر أنفع

على أن أنفع مرفوع، وهو مؤخر لمن تقديم لضرورة الشعر، كما في قوله‏:‏

إنك إن يصرع أخوك تصرع

والأصل فيهما‏:‏ ولكن أنفع، متى أملك الضر، وإنك تصرع، إن يصرع أخوك، ويكون هذا المقدم تقديراً دليل الجزاء المحذوف‏.‏

قال سيبويه‏:‏ والذي سمعناهم ينشدون قول العجير السلولي‏:‏ وما ذاك إن كان ابن عمي البيت‏.‏ والقوافي مرفوعة، كأنه قال‏:‏ ولكن أنفع متى ما أملك الضر‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

والضرورة عند المبرد إنما هي في حذف الفاء من أنفع وتصرع، وقد رد على سيبويه دعواه تقدير التقديم في هذا، وفيما تقدم، ونقله ابن السراج في الأصول، فلا بأس علينا إن نقلناه‏.‏ وهذا كلامه‏:‏ قال أبو العباس محمد بن يزيد‏:‏ أما قوله‏:‏ آتيك إن أتيتني فغير منكر، ولا مدفوع، استغنى عن الجواب بما تقدم، ولم تجزم إن شيئاً، فتحتاج إلى جواب مجزوم، وشيء في مكانه‏.‏

وأما قوله‏:‏ البسيط

وإن أتاه خليل يوم مسغبة *** يقول لا غائب ما لي ولا حرم

يقول على القلب، فهو محال، وذلك لأن الجواب حده أن يكون بعد إن وفعلها الأول، وإنما يعني بالشيء موضعه، إذا كان في غير موضعه، نحو‏:‏ ضرب غلامه زيد، لأن حد الغلام أن يكون بعد زيد‏.‏ وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء، فلو جاز أن تعني به التقديم، لجاز أن تقول‏:‏ ضرب غلامه زيداً، تريد ضرب زيداً غلامه‏.‏

وأما ما ذكره من‏:‏ من، ومتى، وسائر الحروف فإنه يستحيل في الأسماء منها، والظروف من وجوه في التقديم والتأخير، لأنك إذا قلت‏:‏ آتي من أتاني، وجب أن تكون من منصوبة بقولك‏:‏ أتي ونحوه، وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها، فليس يجوز هذا، إلا أن تريد بها معنى الذي ومتى، إذا قلت‏:‏ آتيك متى أتيتني، فمتى للجزاء، وهو ظرف لأتيتني، لأن حرف الجزاء لا يعمل فيه ما قبله، ولكن الفعل الذي قبل متى أغنى عن الجواب، كما قلت في إن في قولك‏:‏ أنت ظالم إن فعلت‏.‏ فأنت ظالم منقطع من إن وقد سد مسد الجواب‏.‏

وكذلك آتيك قد سدت مسد الجواب في متى وإن لم يكن منها في شيء، لأن متى منصوبة بأتيتني، لأن حروف الجزاء من الظروف، والأسماء إنما يعمل فيهما ما بعدهما، وهو الجزاء الذي يعمل فيه الجزم‏.‏ والباب كله على هذا، لا يجوز غيره‏.‏

ولو وضع الكلام في موضعه لكان تقديره‏:‏ متى أتيتني فأتيتك، أي‏:‏ فأنا آتيك‏.‏

وأما قوله‏:‏ *** من يأتها لا يضيرها

إنما هو من يضيرها لا يأتها، فمحال أن ترتفع من بقولك لا يضيرها ومن مبتدأ، كما لا تقول زيد يقوم، فترفعه بيقوم‏.‏ وكل ما كان مثله فهذا قياسه‏.‏

وهذه الأبيات التي أنشدها كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب، كقوله‏:‏ الله يشكرها، لا يجوز إلا ذلك‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

والبيت من قصيدة للعجير السلولي‏.‏ قال الأصفهاني في الأغاني، وابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ كانت للعجير بنت عم، كان يهواها وتهواه، فخطبها إلى أبيها فوعده وقاربه، ثم خطبها رجل من بني عامر موسر، فخيرها أبوها بينه وبين العجير، فاختارت العامري ليساره، فقال العجير في ذلك‏:‏

ألما على دار لزينب قد أتى *** لها باللوى ذي المرج صيف ومربع

وقولا لها‏:‏ قد طال ما لم تكلمي *** وراعك بالغيب الفؤاد المروع

وقولا لها‏:‏ قال العجير وخصني *** إليك وإرسال الخليلين ينفع

أأنت الذي أودعتك السر وانتحى *** بك الخون مزاح من القوم أقرع

إذا مت كان الناس صنفان‏:‏ شامت *** وآخر مثن بالذي كنت أصنع

ولكن ستبكيني خطوب كثيرة *** وشعث أهينوا في المجالس جوع

ومستلحم قد صكه القوم صكة *** بعيد الموالي نيل ما كان يمنع

رددت له ما فرط القيل بالضحى *** وبالأمس حتى آبنا وهو أضلع

وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي *** ولكن متى ما أملك الضر أنفع

وهي قصيدة طويلة‏.‏

والإلمام‏:‏ النزول، وضمنه معنى الإشراف‏.‏ واللوى‏:‏ ما التوى من الرمل‏.‏ والمرج‏:‏ الموضع الذي ترعى فيه الدواب‏.‏ وأراد بالمربع الربيع‏.‏

وراعك‏:‏ أفزعك‏.‏ وانتحى‏:‏ اعتمد وقصد‏.‏ والخون‏:‏ الخيانة‏.‏

وقوله‏:‏ إذا مت كان الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، هو من شواهد سيبويه على أن كان فيها ضمير الشأن، وهو اسمها‏.‏ وجملة الناس صنفان‏:‏ خيرها‏.‏

وروى ابن الأعرابي البيت كذا‏:‏

إذا مت كان الناس صنفين شامت *** ومثن بنيري بعض ما كنت أصنع

فكان على أصلها‏.‏ والنيران‏:‏ العلمان في الثوب‏.‏ وإنما يريد أنه يثنى عليه بحسن فعله، الذي هو في أفعال الناس كالعلم في الثوب‏.‏

وخطأه أبو محمد الأسود، وقال‏:‏ الصواب الرواية الأولى في المصراع الثاني‏.‏

وقوله‏:‏ ولكن ستبكيني خطوب، الخطوب هنا‏:‏ الأمور العظام‏.‏ وروى بدله‏:‏ خصوم جمع خصم، وهو معروف‏.‏ والشعث‏:‏ جمع أشعث وشعثاء، وهو المتلبد الرأس‏.‏

وقال أبو محمد الأسود‏:‏ الصواب‏:‏

بلى سوف تأتيني خطوب كثيرة

ولم يظهر لي وجهه‏.‏ ورويا‏:‏ أهينوا حضرة الدار، بدل‏:‏ أهينوا في المجالس، وحضرة‏:‏ ظرف‏.‏ وجوع‏:‏ جمع جائع‏.‏

وقوله‏:‏ ومستلحم قد صكه بالرفع معطوف على ما قبله‏.‏ والمستلحم بكسر الحاء، المستلحق في القرابة وفي الجوار، من اللحمة بالضم، وهي القرابة‏.‏

والصكة‏:‏ الضربة‏.‏ والمولى هنا الناصر والمعين‏.‏ وبعيد‏:‏ حال من المفعول‏.‏

ورويا‏:‏ ذليل الموالي بدل‏:‏ بعيد الموالي‏.‏ وقوله‏:‏ نيل، أي أخذ منه ما كان يمنعه‏.‏

ورويا المصراع الأول هكذا‏:‏ ومضطهد قد صكه الخصم صكة والمضطهد بفتح الهاء‏:‏ المقهور والمضطر‏.‏

وقوله‏:‏ رددت له ما فرط القيل، أي‏:‏ ما نحاه القيل‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ قال الخليل‏:‏ فرط الله عنه ما يكره، أي‏:‏ نحاه، وقلما يستعمل إلا في الشعر‏.‏ والقيل، بفتح القاف‏:‏ الملك‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ ويحتمل أن يكون القيل هنا شرب نصف النهار‏.‏ وآبنا‏:‏ رجع إلينا‏.‏ والأضلع، بالمعجمة‏:‏ المطيق للشيء القائم به‏.‏

وروى ابن الأعرابي‏:‏

رددت له ما سلف القوم بالضحى *** وبالأمس حتى اقتاله وهو أخضع

وقال‏:‏ سلف القوم ذلاً وهو أخضع، أراد أن مفعول سلف محذوف، وجملة‏:‏ وهو أخضع حال‏.‏

واقتاله، أي‏:‏ اقتال عليه، أي‏:‏ تحكم‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ واقتال عليه‏:‏ تحكم‏.‏ ومادته القول‏.‏

وروى أبو محمد الأسود المصراع الثاني كذا‏:‏

حتى ناله وهو أضلع

وقال‏:‏ أي‏:‏ أخذ أكثر من حقه‏.‏

وقوله‏:‏ وما ذاك أن كان إلخ ، اسم الإشارة راجع لما صنعه من الجميل مع المستلحم، وهو رد ما أخذ من ماله إليه قهراً، وهو مبتدأ وخبره محذوف، أي‏:‏ صنعته‏.‏

وأن مصدرية مجرورة باللام‏.‏ واسم كان ضمير المستلحم‏.‏ وابن خبر كان، والتقدير‏:‏ وما ذاك الجميل فعلته معه لكونه ابن عمي، ولكونه أخي، ولكن من شأني إذا قدرت على الضرر والبطش نفعت‏.‏

وروى أبو محمد الأسود المصراع الأول كذا‏:‏

ولست بمولاه ولا بابن عمه

والعجير السلولي‏:‏ شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين بعد الثلثمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الخفيف

إن من لام في بني بنت حس *** ن ألمه واعصه في الخطوب

على أن ضمير الشأن وهو اسم إن محذوف، والجملة الشرطية خبرها‏.‏

وتقدم شرح هذا البيت مفصلاً في الشاهد السابع بعد الأربعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏